شرح حديث: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي"

باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان، أو الخوف من فتنة في الدين ووقع في حرام وشبهات ونحوها قال الله تعالى:
﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾
[الذاريات: 50].
♦ وعن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يحبُّ العبدَ التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ))؛ رواه مسلم.
والمراد بـ ((الغني)) غنيُّ النفسِ، كما سبق في الحديث الصحيح.
♦ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجلٌ: أيُّ الناس أفضلُ يا رسول الله؟ قال: ((مؤمنٌ مجاهدٌ بنفسه وماله في سبيل الله))، قال: ثمَّ من؟ قال: ((ثم رجلٌ معتزلٌ في شِعبٍ من الشِّعابِ يعبُد ربَّه)) وفي رواية: ((يتقي الله، ويدع الناس من شره))؛ متفق عليه.

♦ وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يتبع بها شَعَفَ الجبال، ومواقع القطرِ، يفرُّ بدينه من الفتنِ))؛ رواه البخاري.

قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: قال المؤلِّف رحمه الله تعالى في كتاب رياض الصالحين: باب استحباب العزلة عند تغير الناس وفساد الزمان وخوف الفتنة، وما أشبه ذلك.   واعلم أن الأفضل هو المؤمن الذي يخالِط الناسَ ويصبر على أذاهم، هذا أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالِط الناس ولا يصبر على أذاهم، ولكن أحيانًا تحدُث أمور تكون العزلة فيها خيرًا من الاختلاط بالناس؛ من ذلك إذا خاف الإنسان على نفسه فتنةً، مثل أن يكون في بلد يطالب فيها بأن ينحرف عن دينه، أو يدعو إلى بدعة، أو يرى الفسوق الكثير فيها، أو يخشى على نفسه من الفواحش، وما أشبه ذلك، فهنا العزلة خيرٌ له.   ولهذا أُمِر الإنسان أن يهاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، ومن بلد الفسوق إلى بلد الاستقامة، فكذلك إذا تغيَّر الناس والزمان؛ ولهذا صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يوشك أن يكون خيرَ مال الرجل غنمٌ يَتْبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر يفرُّ بدينه من الفتن))، فهذا هو التقسيم؛ العزلة خير إن كان في الاختلاط شرٌّ وفتنة في الدين، وإلا فالأصل أن الاختلاط هو الخير، يختلط الإنسان مع الناس فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يدعو إلى حق، يبيِّن السُّنة للناس، فهذا خير، لكن إذا عجز عن الصبر وكثُرت الفتن، فالعزلة خير، ولو أن يعبد الله على رأس جبل، أو في قعر وادٍ.   وبيَّن النبيُّ عليه الصلاة والسلام فضل الرجل الذي يحبُّه الله عزَّ وجلَّ فقال: ((إن الله يحبُّ العبد التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ)).

التقيُّ: الذي يتقي الله عزَّ وجلَّ، فيقوم بأوامره، ويجتنب نواهيَه؛ يقوم بأوامره من فعل الصلاة وأدائها في جماعة، يقوم بأوامره من أداء الزكاة وإعطائها مستحقِّيها، يصوم رمضان، ويحج البيت، يبرُّ والديه، يصل أرحامه، يحسِن إلى جيرانه، يحسن إلى اليتامى، إلى غير ذلك من أنواع التُّقى والبرِّ وأبواب الخير.

الغنيُّ: الذي استغنى بنفسه عن الناس، غني بالله عزَّ وجلَّ عمن سواه، لا يَسأل الناس شيئًا، ولا يتعرض للناس بتذلُّل؛ بل هو غني عن الناس، عارفٌ نفسه، مستغنٍ بربِّه، لا يلتفت إلى غيره.

الخفيُّ: هو الذي لا يُظهِر نفسه، ولا يهتم أن يَظهَر عند الناس، أو يشار إليه بالبنان، أو يتحدث الناس عنه، تجده من بيته إلى المسجد، ومن مسجده إلى بيته، ومن بيته إلى أقاربه وإخوانه، خفيٌّ يخفي نفسه.

ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان إذا أعطاه الله علمًا أن يتقوقع في بيته ولا يعلِّم الناس، هذا يعارض التُّقى، فتعليمُه الناسَ خيرٌ من كونه يقبع في بيته ولا ينفع الناس بعلمه، أو يقعد في بيته ولا ينفع الناس بماله.

لكن إذا دار الأمر بين أن يلمع نفسه، ويُظهِر نفسه، ويبيِّن نفسه، وبين أن يُخفيَها، فحينئذٍ يختار الخفاء، أما إذا كان لا بد من إظهار نفسه، فلا بد أن يظهرها، هذا ممن يحبه الله عزَّ وجلَّ، وفيه الحثُّ على أن الإنسان يكون خفيًّا، يكون غنيًّا عن غيره عن غير الله عزَّ وجلَّ، يكون تقيًّا لربه سبحانه وتعالى؛ حتى يعبد الله سبحانه وتعالى في خير وعافية.

المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 509- 511)

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفرق بين الجمعية والمؤسسة والمنظمة ؟

لماذا يتم وضع "اسفنج" على الميكروفون؟

من هو مخترع نظام ساهر؟